صورة أرشيفية
فى «بيت لحم» يخرج «السيد» إلى الدنيا، من عذراء لم يمسسها بشر. وفى مكة يولد «الهُدى» من أرملة صغيرة مات عنها زوجها. إلى الفضاء تتصاعد الترانيم المقدّسة: «المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»، وفى بلاد فارس يرتج إيوان كسرى وتسقط منه أربعة عشر شرفة وتخمد النار للمرة الأولى منذ ألف عام. «السيد» تحنو عليه أمه وتقمطه وتضجعه فى المذود، إذ لم يكن لهما موضع فى المنزل، و«الهُدى» يحمله جده لأبيه فرحاً مستبشراً، فيطوف به البيت الحرام، وهو يحمد الله قبل أن يمنحه اسمه. «السيد» ينطق فى المهد فيعلّم الناس ما جهلوا، و«الهُدى» ينطلق لسانه بالبيان وقد جاوز الأربعين. «السيد» معجزة ما عاش على الأرض، و«الهُدى» آية تسير على قدمين. «السيد» كلمة، و«الهدى» بشير. لـ«السيد» ميلاد، ولـ«الهدى» مولد. وما بين الميلاد والمولد معانٍ كثيرة، إذ يتوافقان هذا العام فى ظاهرة فلكية لا تتكرر إلا كل ثلث قرن. معها تستقبل مصر تباشير خير وسعادة واطمئنان تعمّ على الجميع، مسيحيين ومسلمين، يحفظون عهد الأول، ويتمسكون بسنة الثانى.. هذان اللذان حملا مشاعل النور وأضاءا الطريق لكل من جاء بعدهما.
«المسيح» و«محمد»، كلاهما قابله قومه بالعناد والمكابرة، رداً على دعوة كل منهما، وكلاهما أصر على حمل الرسالة وتوصيلها إلى جموع الناس رغم الظلم والعذاب. «الإنجيل» فى يد «المسيح»، و«القرآن» فى يد «محمد». الفضائل واحدة، ومكارم الأخلاق مشتركة. إلى جبل يصعد «المسيح» فيتحدث: «لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل». وعلى جبل آخر يقف «محمد» ليتلو الكلمات: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا». يواصل «المسيح»: «فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك». و«محمد» يتابع: «إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم، إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا». يترك «المسيح» الوصية: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم». يقدم «محمد» النصيحة: «إن ربكم واحد وإن أباكم واحد.. كلكم لآدم وآدم من تراب.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربى على عجمى فضل إلا بالتقوى». ومن «الله محبة» إلى «نور على نور» تختلف عقائد الناس، غير أن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، إذ يرددون جميعاً فى النهاية: «مبارك شعبى مصر»، و«استوصوا بأهل مصر خيراً، فإن لكم فيها صهراً ونسباً وأهلها فى رباط إلى يوم الدين».
مصر التى لم ينسها «المسيح» أو «محمد»، تتذكرهما وتجلهما.. إذ تحتفل بمولديهما سوياً هذا العام. فى الشوارع تعرض محلات الهدايا أشجار الكريسماس التى يقبل على شرائها المسيحيون والمسلمون، كما تنتصب سرادقات «حلاوة المولد» لتبيع العرائس والأحصنة وأقراص السمسمية والفولية لكلا الطرفين. تزدحم محلات الملابس الجاهزة بالمسيحيين الذين يستعدّون للعيد، وفى الأسواق يطوف المسلمون ليبتاعوا اللحوم والبط والدواجن، استعداداً لإقامة وليمة «الموسم». ترتدى الكنائس أبهى حللها وتزدان المساجد بالأضواء. تصدح الأجراس ويعلو صوت الأذان. تنطلق الترانيم وتتسلل التراتيل احتفالاً بالمناسبتين: «المسيح» و«محمد».. معاً دائماً على الطريق.