هل كانت الملكة كليوباترا جميلة؟ سؤال أثاره العلماء، ولكن الذي لم يفطنوا إليه أن “مقياس الجمال” الذي يحاكمون به كليوباترا هو مقياسهم هم، وليس مقياس البشرية في كل زمان ومكان! إن نموذج النحافة الغربـي المرسخ له حاليًا كمثال لجسد المرأة الجميلة ليس النموذج الأوحد؛ فالجمال ليس سلعة وليس ذوقًا استهلاكيًا ليتم إخضاعه لقوانين العولمة. إن كليوباترا وأي امرأة مصرية أو عربية تعيش في زماننا لا يمكن محاكمتها وفقًا لموديل عارضة الأزياء أو ملكة الجمال الغربية؛ فالمقاييس الجمالية -كما تـرى الدكتورة عزة شحاتة أستاذة الاجتماع- متغيرة ومختلفة بتغير المجتمعات والثقافات والمناخات، ولو نظرنا إلى أوروبا ذاتها لوجدنا أن مقاييس جمال المرأة عند الرومان كانت تكرس للبشرة البيضاء والبدانة؛ وهو ما يرفضه الإيطاليون حاليًا.
وقد تنبه أفلاطون منذ زمن بعيد إلى فكرة تنوع “الجمالات”، والتفت أطباء التجميل في عصرنا إلى أن “التناسق” هو سر الجمال الجسدي، بغض النظر عن محاولة تسييد نمط جمالي بعينه، وأوجد هؤلاء الأطباء قوانينهم الخاصة؛ فهناك قانون الأثلاث الذي يرى أن أبعادًا ونسبًا معينة تخلق تناغمًا في ملامح الوجه، وقانون الأخماس الذي يوضح أن قاعدة الأنف تكون متناسبة مع المسافة بين العينين في الوجه الجميل. وقديمًا قال الفنان ليوناردو دافنشي: إن مستوى سطح الجبهة العمودي يفضل أن يتناسب مع الشفة السفلى والذقن.
ورغم أن التناغم من أهم سمات الجمال بشهادة المتخصصين، فإننا نجد كثيرًا من النساء العربيات يلهثن وراء ما لا يناسبهن من ألوان للعيون وللشعر؛ تمشيًا مع نموذج غربي مفترض في مخيلتهن بدون مبرر؛ باعتباره سمت الحسن الوحيد، ويرهقن أنفسهن بما لا يقدرن عليه من أساليب شديدة القسوة لبلوغ النحافة المأمولة التي قد تكون بوابة للهزال والأمراض.
ويؤكد خبراء التجميل أن مقاييس الجمال نسبية؛ فالجمال في جنوب شرق آسيا يتمثل في العينين الضيقتين والشكل المميز لهما، أما بالنسبة للأفارقة فهو البشرة السمراء والشفاه العريضة. أما الجمال المصري -وفقاً للدكتور أحمد الشرقاوي، أستاذ الجراحة العامة والتجميل- فيتميز بلمسة أفريقية وباللون القمحي والشعر الأسود والعيون السوداء الواسعة والشفاه الممتلئة.
النحافة الغربية والتحرر
ويرى الباحث الدكتور أحمد محمد عبد الله في دراسة حديثة له أن مقاييس الجمال قد تحركت تجاه نحافة كبرى وارتبطت هذه النحافة “الجديدة” بتحوّل مهم في وضع المرأة في المجتمع من كونها أُمًا بالأساس إلى كونها موضوعًا جنسيًا مثيرًا للشهوة وباحثًا عن الإعجاب في عيون الرجال أكثر من بحثه عن السعادة في عيون الأبناء الصغار “المزعجين”، وصارت النحافة عنوانًا للتحرر، وانتشرت مع هذا السباق أمراض مصاحبة لأنماط غذائية غير متوازنة، منها مرض “البوليميا” الذي أصاب الأميرة “ديانا”، وفيه يُصاب الإنسان بالشره؛ فيأكل كميات ضخمة من أنواع متعددة، ثم يتقيَّأ كل ما أكله ليعبر عن خوف دفين لديه ربما من السمنة!! إن الجميل هو المناسب، وإن التغيير من مناسب إلى مناسب آخر هو الذي نطلبه. وفي القديم كان حضور الروح والجمال الداخلي يتجلّى بوسائل كثيرة غير جمال الجسد، ولكن في عصرنا المادي التسليعي قد زادت أهمية الجسد كصورة للذات.
وفي حديثه لنا يرى الشاعر والكاتب رفعت سلام أن الجمال له أكثر من مستوى؛ فما تراه العين من جمال جسدي هو السطح الخارجي من الجمال، أما القلب فيرى الأعماق التي لا تتبدى على السطح الخارجي الزائف أو المموه، وهذا ما لا تراه العين التي يحجب السطح عنها هذه الحقائق.
جمال المرأة الفرعونية
وبالرجوع إلى التاريخ لتقصي مبدأ “خصوصية الجمال” نجد أن الحضارة المصرية القديمة استطاعت أن تفرز فلسفتها الخاصة في الجمال والتجميل والأزياء؛ فهناك نقوش -كما يقول الباحث مختار السويفي في كتابه “أم الحضارات”- تصوّر سيدات ذوات شعر طويل منسدل، وأخرى تصورهن ذوات شعر قصير، وثالثة تصورهن ذوات شعر ملموم ومرفوع إلى أعلى الرأس ليأخذ شكل التاج، أو ملموم إلى الخلف بطريقة الموضة المعروفة حاليًا باسم “شينون أو سبانيش”.
كما أن الأناقة الفرعونية تقتضي التحلي بعشرات الأنماط من الأقراط والعقود والأساور والخلاخيل والأحزمة وخلافه، واستخدام أنواع عديدة من مساحيق التجميل، فضلاً عما تشبكه المرأة في شعرها من دبابيس وأمشاط وورود وأزهار.
وقد اهتم المصري القديم كثيرًا بـ”مظهره العام”، وهذا ما يؤكده دومينيك فالبيل في كتابه “الناس والحياة في مصر القديمة”، والتزيين عند المصري القديم يشمل الاغتسال وتطهير الفم بالنطرون وإزالة الشعر ونزعه وتدليك البشرة بالزيوت والدهانات المعطرة وإطلاق البخور.
ومن دواعي المفارقة أنه في الوقت الذي تتسابق فيه السيدات المصريات نحو تقليد الموضة الغربية في الماكياج والأزياء، ويلهثن لمتابعة آخر أخبار عارضات الأزياء أمثال ناعومي كامبل وكلوديا شيفر؛ فإن الخبراء الغربيين تأكدوا بدراساتهم المتخصصة من أن الفتاة الفرعونية هي أصل الجمال والسحر في تاريخ البشرية، وأن المكياج الفرعوني سيصبح موضة الأعوام المقبلة، وأن خلطات الماء والأعشاب واللبن والزيوت العطرية المستخلصة من الزهور الطبيعية للاحتفاظ بالشباب هي الأفضل والأكثر ملاءمة للصحة.
جمال المرأة العربية
وبالرجوع إلى تاريخ العرب نجد أن حسن جسد المرأة لم يكن ليكتمل إلا إذا اكتملت فيها بعض هذه الصفات التي تتسق مع البيئة وطبيعة التفكير آنذاك؛ فالمرأة جميلة الجسد قد تكون هي “البهكنة” (السمينة الناعمة جميلة الوجه حسنة المعرى)، أو “الوركاء” (عظيمة الوركين)، أو “الرداح” (عظيمة العجيزة)، أو “الخذلجة” (ممتلئة الذراعين والساقين)، أو “الفرعاء” (تامة الشعر)، أو “الهدباء” (طويلة أهداب العينين)، أو “ذات الدعج” (صاحبة العين شديدة السواد مع سعة المقلة)، أو “ذات الحور” (التي اتسع سواد عينها كأعين الظباء).. إلى آخر تلك الصفات. ونجد الشاعر العربي طرفة بن العبد يصف في معلقته الشهيرة فتاته الحسناء بأنها “بهكنة تحت الطراف المعمد”، ويصف امرؤ القيس شعر فتاته بأنه “أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل”.
وبسؤال الكاتب والناقد الدكتور طه وادي أستاذ الأدب العربي حول افتتان العرب بالعيون السوداء –كمثال- بشكل خاص دون بقية الألوان، أوضح في إجابته أن السبب يعود إلى الذوق العربي عمومًا المتأثر بالمناخ العربي والبيئة الصحراوية؛ فالإنسان السوي يتقصى ملامح الجمال من بيئته التي تخصه، وليس من النموذج المفروض عليه من الخارج.
أما الدكتور سيد حنفي أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بجامعة القاهرة، فقد قال لنا: إن العربي القديم كان يتشاءم من العين الخضراء، ولكن في العصر الحديث صارت الظاهرة التشاؤمية ظاهرة جمالية بعد الانفتاح على الغرب، واستساغة العيون الخضراء في مجتمعاتنا، والحقيقة أن اللون ليس هو المهم بقدر أهمية التناسب مع بقية الملامح الجسدية.
وقد كشفت نتائج دراسة ميدانية حديثة أن أغلبية النساء العربيات من أعمار وأقطار مختلفة يفضلن العودة إلى الجمال العربي التقليدي ومنتجات التجميل والأصباغ والعطور الطبيعية. وأثبتت نتائج الدراسة التي بثتها قناة فضائية عربية مؤخرًا أن كثيرًا من النساء العربيات والثقات من جمالهن العربي التقليدي، ويعتبرن أن الشعر الأسود الطويل هو تاج جمالهن، وذلك على الرغم من انشغال نساء أخريات كثيرات بالتطلع إلى النموذج الغربي في صيحات الموضة والجمال.